أيمن بوبوح يكتب: أسئلة وأجوبة حول دراسة الطب في المغرب

تصلني عبر صفحتي المهنية وخلال محادثات مع الأصدقاء تساؤلات حول تجربة دراسة الطب والعمل كطبيب في المغرب. تأتي أغلب هذه الأسئلة من أمهات وآباء يريدون لأبنائهم الناجحين في الباكالوريا أن يسلكوا هذا الطريق أو من المعنيين بالأمر أنفسهم . سأفصح عن رأيي الصريح بعجالة في هذا الموضوع على أن أتطرق لتفاصيل أكثر دقة في مناسبات أخرى.

تكونت في مراحل الطفولة الأولى في مخيلة كل منا صورة ذهنية عن مهنة الطبيب. وارتبطت هذه الصورة بالنبل والرحمة والعطاء والصفاء والإنسانية لنقاء قلوبنا آنذاك وصفاء سريرتنا وقربنا من الفطرة الأصيلة. أتذكر أن أغلب الأجوبة على السؤال الكلاسيكي الذي كان يطرح في كل المناسبات : « ماذا تريد أن تصبح حينما تكبر؟ » كانت تتراوح بين طبيب وربان الطائرة ومعلم. فيما بعد، أصبح الناس يختارون مهنة الطب- بعد انتكاس الفطرة- للمكانة الاجتماعية والاحترام الذي يحظى به الطبيب، وكذا للمال الذي يجنيه من ربح المصحة أو العيادة. تحولت الغاية من دراسة ومزاولة الطب إذن من رسالة كانت تناسب الطبيعة الإنسانية المجبولة على فعل الخير إلى استثمار الوقت والجهد من أجل الربح الشخصي والمادي على المدى المتوسط والطويل.

نظرة ملائكية

للإجابة على السؤال الذي يتردد علي كثيرا: « هل تنصحني/تنصح ابني بدراسة الطب؟ »، أجيب بأن الأمر يعود في الأول والأخير إلى متخذ القرار. الصبر الجميل الذي تتطلبه دراسة الطب وقوة التحمل التي تستلزمه ظروف قطاع الصحة في بلدنا، والنجاح المبهر الذي قد يحققه هذا الشاب(ة) ثم الإبداع والعطاء في هذا الميدان دون أن تتغير المبادئ والمعدن والغاية رهين بالقناعة الدفينة بأنه خلق لكي يكون طبيبا، والرغبة الجامحة لأن يصل إلى هذا الهدف. أعيدها مرة أخرى بطريقة أخرى : لكي لا تتسخط في مسار الطب الطويل، لكي لا تعذب نفسك وعائلتك وأنت تواجه الامتحانات الكثيرة والدروس العديدة لسنوات طويلة، لكي لا تفاجأ بعد سنوات من الجهد والكد بأن المكانة الاجتماعية للطبيب ليست بتلك العظمة والنظرة الملائكية التي كانت لدينا، لكي لا تفاجأ بأنه يمكن ربح المال بشكل أسرع وأكثر في ميادين قد لا تحتاج لكل هذه التضحية، اختيار شعبة الطب يجب أن ينبثق بالأساس من حب رسم الفرح في وجوه الناس بعلاج أمراضهم ابتغاء رضى الله وسكينة النفس وطمأنينتها. المال، والمكانة والاحترام يتبعون ذلك لا محالة.

مع كامل الأسف

ما يحدث وما شاهدته طوال سنوات مزاولة هذه المهنة هو أن بلدنا، مع كامل الأسف، يفتقر للأساليب البيداغوجية لتدريس الطب كما هو الحال في الدول التي تحترم العلم وتقدسه. الامتحانات لا تقيم مهارة الطالب في فهم مسببات الأمراض فهما ذكيا سلسا دائما، ولا مهارته في التشخيص والعلاج بطرق تعليمية تواصلية؛ أغلب الأساتذة لا يعطون القدوة الحسنة بل أمثلة سيئة في سوء التربية والكبر والسادية والمادية واللامبالاة. يأتون لإلقاء الدرس برتابة لكي يذهب الطالب بعد ذلك لحفظه حفظا قرآنيا، ثم يأتي ليتقيأه يوم الامتحان، لينساه بعد ذلك. أما التكوينات في المستشفيات الجامعية فتضع الطالب أو الطبيب الداخلي والمقيم  بين يدي أساتذة متعجرفين إلا من رحم الله، وغائبين- لأنهم في المصحات الخاصة يتنافسون- إلا القليل ممن يستحق فعلا أن ينادى بهذا اللقب: « أستاذ »، وبين أروقة مستشفيات هشة تعمها الفوضى وتفتقد للوسائل العلمية والتعليمية والتكنولوجية والجو المناسب لتلقي وتدارس العلم والإبداع فيه.

انتقام ما بعد التخرج

عندما يتخرج الطالب من كلية الطب كطبيب عام أو متخصص فإن الماراثون الذي شارك فيه طوعا يجعله يتغير ويسعى إلى استرجاع سنوات شبابه التي ضاعت في كليات بلدنا المملة ومستشفياته البئيسة وأساتذته المعقدين. يسعى مع كامل الأسف كما يقال للانتقام لكن ليس من المنظومة التي بلَدته- « من البلادة »- واستنزفت شبابه وقدراته وأحلامه وأمانيه، ولكن من المجتمع بكامله بأن يصبح أنانيا ماديا منشارا « طالع واكل، هابط واكل » لا يبالي أأتقن عمله وأخلص فيه أم لا.

شخصيا لو رجع بي الزمن إلى الوراء لاخترت الطب لحبي الشديد لهذه المهنة لكن ليس في هذا البلد. عانيت كثيرا لكي أتأقلم مع الطريقة التي يعلم بها الطب وعقليات القيمين على هذا القطاع في بلدي، خصوصا بعد المقارنة مع التعليم البلجيكي والكندي اللذين كونا جزءا من شخصيتي الطبية. باختصار: من أراد أن يدرس الطب في المغرب عليه أن يحب هذه المهنة من أعماق أعماق قلبه ليتخطى كل ما ذكر.

شهادات زملائي

طرحت هذا السؤال على مجموعة من الأطباء الذي أشتغل معهم في مشروع طبي مشترك: « ماذا لو رجع بكم الزمان إلى الوراء؟ هل كنتم ستختارون الطب مرة أخرى؟ ».

ع.ا: « نعم لأنه كان اختيارا مبنيا على أساس إنساني. بصراحة كانت مدينتي ومسقط رأسي في خصاص لمختبرات التحاليل الطبية، فالتزمت أن أدرس جاهدا العلوم التي تمكنني من سد هذا الخصاص. اليوم مدينتي حققت اكتفاءها الذاتي من المختبرات، فرسمت لنفسي هدفا آخر أكبر وأسمى لكل المغرب ».

إ.ر: » نعم، فرغم المشاق التي اعترضت طريقي في الدراسة ورغم التعب الشديد أثناء العمل في بعض الأيام، تكفي كلمة شكر من مريض لكي أشعر بالرضى لاختياري هذه المهنة ».

و.ب: « كنت سأختار الطب، هذا أكيد، لكن سأفكر: أين؟. حتما، بعيدا عن الجامعة المغربية والعقلية الضيقة لبعض أساتذتها. حتما، بعيدا عن مستشفياتها ناهيك عن انعدام الظروف الملائمة التي تستلزمها دراسة الطب في شقها التطبيقي ».

ه.ش: »نعم، كنت سأختار الطب، لأنه الحلم الذي كان يراودني منذ طفولتي لكن لن أختار تعلمه في المغرب« . 

إلى أن نرقى إلى مستوى الجامعات العالمية التي يحج إليها الطلبة من كل أنحاء العالم لجودة التعليم ومنهجية التعلم، إلى أن تتحول مستشفياتنا الجامعية إلى مراكز فعلية لطلب العلم، إلى أن نصير يوما ما نريد، أتمنى أن يجد هذا المقال القارئ الذكي، الذي يفهم من كلامي أنني لا أحث الناس على الهجرة ولا على هجر الطب. مقالي يريد للذي يلج هذا الميدان في بلده أن يلجه عن بينة لكي لا يصدم بالواقع. أريد أن يلجها الشغوفون فقط، الذين يحبون هذه المهنة، ومستعدون للتضحية من أجل نيل أسرارها، وتغيير واقعها في مغربنا الحبيب.

  • Share this post

Comments

All rights reserved © 2020. Powered by: ReWeb